

الفن إبداع لا متناه، يتضمن قيم الحق والخير والجمال، وعادة ما يرسم المبدع لوحته الإبداعية فى أى من مجالات الفنون ليجسد المدينة الفاضلة التى يبغيها بمشاعر تتدفق وأحاسيس تتوغل فى أفق مغايرة تستنطق وتستوحى وتشكل عوالم كثيرا ما أحاطها الصمت وحجبها النسيان لننطلق بمجالاتنا الاقتصادية والسياسية والبيئية والتربوية وغيرها إلى التقدم والنمو والازدهار بمفهوم الإبداع الملائم لكل مجال.
لقد أضاءت عقول الفنانين نوراً فتولد الإبداع، وامتدت أنظارهم للمستقبل بمحاور بعيدة تكشف مكنون خباياهم بما تترجمه تلقائية أعمالهم بموهبة تتفجر بطاقاتها الطاردة لأشكال البؤس واليأس.
فالفنون كالكائن الحى يتأثر ويؤثر فى كل المتغيرات الموجودة حوله. ولأن الإبداع يتولد عادة نتيجة انفعالات أو آلام أو شحنات نفسية نابعة من قوة موهبة تستفيض داخل كيان المبدع متأثراً بما حوله نظراً للتعايش بين الفنان وبيئته المحيطة وتفاعله بما حوله، فقد لعب الفن دوراً مؤثراً فى شتى مناحى الحياة، ويشهد تاريخ الفنون على مر الأزمنة أن الفن ليس مجرد ظاهرة جمالية تخاطب الوجدان فحسب، وإنما هناك وظائف أخرى قد تتجاوز حدود المتعة والتسلية والبهجة التى يبعثها الفن فى نفوسنا.
وهى ارتباط هذا الفن عند نقده تمحيصاً وتدقيقاً وتحليلاً بالارتباط التاريخى، أى أن السياق الزمنى له دور كبير فى شكل هذا الفن نتيجة لإحاطته بظروف سياسية واجتماعية تشكل بعداً جمالياً مقترناَ بواقع هذا الفن. وارتباط الفن بالسياسة كان ولا يزال يمثل جوهر الروح النقدية لكثير من الفنون التى واكبت أحداثا تاريخية معينة، أو ظروفا سياسية كانت هى المحرك لإبداع أصحابها منذ أقدم العصور.
ولا تزال قضية العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة من أهم ما يشغل الكثيرين فى العصر الحديث، فالسياسة من أكثر الاتجاهات تأثيراً فى نفوس المواطنين نتيجة للتعايش فيه، سلباً كان أو إيجاباً، وهو ما يحتم على المواطنين قدرا معينا من الدراية والمشاركة فى الشئون السياسية، شاءوا أم أبوا.
ولضرورة الفن وأهميته، فكثيراً ما كان داعماً ومحركاً للأوضاع السياسية الحاكمة، وقد يكون مناهضاً لها فى بعض الأحيان. إذن، فالعلاقة بين الفن والسياسة قائمة منذ أزمنة بعيدة، ودائماً ما تعبر الفنون عن آمال الشعب وآلامه، فهى انعكاس للواقع بكل ما فيه لأنه جزء لا يتجزأ من تكوين المجتمع الذى يعيشه، بل وعليه أيضاً دور مهم فى نشر الوعى الثقافى داخل مجتمعه. فالفن وسيلة لإيجاد التوازن بين الإنسان وعالمه وهو الأداة اللازمة لإتمام هذا الاندماج بين الفرد والجماعة.
ولا يمكن أن نستهين بدور الفن والفنانين فى شتى مناحى الحياة بعدّهم أحد العوامل المهمة فى بناء وإصلاح المجتمعات ورفعة شأن الأوطان، ليس لما يحملونه من القضايا الإنسانية والسياسية الداخلية والخارجية، لكن بحسبانهم سفراء بفنونهم التى تعد الطريق الأيسر لمخاطبة العالم.
والواقع أن الثقافة وما ينبثق عنها من فنون تعد أحد مقومات النهضة لأى من المجتمعات، فالثقافة فى واقعها هى السلوك ومجموع العقائد والقيم والموروثات التى نمت تراكمياً على مدى زمنى كبير ويمتثل لها أفراد المجتمع، والفن يترجم واقعنا المجتمعى بما فيه من قضايا سياسية وتاريخية واقتصادية وأطروحات اجتماعية ملحة يعمل على تفسيرها ونقدها بإبداعات ذاتية ومعالجات تعمل على التغيير والإصلاح. وكما أشرنا، فالفنون أحد أشكال ترجمة الثقافة برؤى إبداعية فنية.
لذلك فغياب وتغييب الثقافة من أشد ما نعانيه خلال السنوات الأخيرة تحديداً، وكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية على صعيد واسع ترجع لانعدام الثقافة الحقيقية، وغياب الوعى وسعة الأفق. كما يعانى الفن تراجعاً كبيراً وانحداراً ربما غير مسبوق فى عملية التلقى لدى الذوق العام، لأنه يعكس ما نعانيه من تخبط سياسى ومجتمعى إبان الفترة الماضية.