عصام حمدان – طالب باحث
تمثل هجرة الأطباء من المغرب ظاهرة اجتماعية نابعة من البنية السياسية والاقتصادية للمجتمع المغربي، فهذه الظاهرة تشكل تحديًا كبيرًا للمنظومة الصحية، إذ تعني هجرة الأطباء انتقال أساس المنظومة الصحية إلى خارج البلاد. ويمكن اعتبار هجرة الأدمغة كنزيف اجتماعي يؤثر على المجتمع المغربي بشكل شامل.
وبما أن المغرب يعتبر من دول العالم الثالث، تلوح في الأفق مشكلات عدة تخص هجرة الأدمغة، خصوصا الكفاءات التي تعمل في تخصصات مهمة كالطب، والهندسة والتعليم الخ… فما الذي يدفعهم إلى التفكير في الهجرة؟ وما هي تأثيرات الهجرة على القطاع الصحي والمجتمع؟ وما هي مجهودات الدولة للحد من هذه الظاهرة؟
لم يكن موضوع هجرة الأطباء محور نقاش سياسي واجتماعي إلا في السنوات الأخيرة، نتيجة لتزايد هذه الظاهرة وتأثيرها السلبي على الفرد والمجتمع، فضلاً عن تأثيرها على سياسيات التنمية. في هذا السياق، بادرت الدولة بالعمل على مكافحة هذه الظاهرة التي تؤثر على البنية الاجتماعية بشكل عام. فالتأثير السلبي لهجرة الأطباء قد ينتقل إلى وعي الأفراد وتصوّراتهم فيما يتعلق بقضايا الصحة والمرض، مما يستدعي اتخاذ إجراءات جادة لمواجهة هذا التحدي الاجتماعي والصحي بفعالية واهتمام.
تناول هجرة الأطباء في البلدان المعروفة بالعالم الثالث أو البلدان في طريق التنمية يعكس فقدان هذه البلدان لاستراتيجيات الحفاظ على الأطباء والكفاءات الطبية المؤهلة. تكشف هذه الظاهرة عن هشاشة البنية الصحية والسياسات العامة لقطاع الصحة في تلك الدول. البنية الاجتماعية لبلد مثل المغرب تعاني من ضعف البنية التحتية الطبية والصحية، مما يجعل من الصعب توفير بيئة عمل ملائمة للأطباء.
إن السؤال السوسيولوجي حول هجرة الأطباء يتجاوز مجرد كونه قضية اجتماعية، إذ تنبع أهميته من تضمينه لعوامل متعددة تتعلق بالبنيات الاجتماعية والتنظيمات التي تشكل البنية الاجتماعية في المغرب. تعتبر هجرة الأطباء مسألة تتصل بتحديات التنمية والتخلف في المجتمع المغربي، حيث تعكس الظاهرة اليوم واقعًا اجتماعيًا يتأثر بالظروف المحيطة والتنظيمات الاجتماعية.
ففي دراسة أعدتها ”مؤسسة أساتذة الطب بالقطاع الحر” أبرزت أن الأسباب التي تدفع الأطباء إلى الهجرة تتمثل أساسا في البحث عن ظروف عمل ومستقبل أفضل، خاصة في ما يتعلق بالراتب والفرص ومستوى الحياة، مضيفة أن مشكلات مجتمعية أخرى ترتبط بالصورة السلبية للأطباء في المجتمع تدفعهم أيضا إلى اتخاذ قرار الرحيل.
ويعزو مختصون ارتفاع نزيف هجرة الأطباء المغاربة إلى الخارج إلى عدد من العوامل الذاتية والموضوعية، أبرزها “ظروف العمل الشاقة وهزالة الأجور والتعويضات وغياب الحوافز المادية”.
فبعد سبع سنوات من التحصيل العلمي وانتظار سنتين على الأقل، يجتاز الطبيب مناظرة التوظيف ليتم تعيينه في مناطق بعيدة تفتقر إلى الحد الأدنى لشروط الحياة والعمل المهني والعيش الكريم، وبأجر شهري لا يتجاوز 840 دولاراً”.
كما أن هناك مشكل آخر وهو قلة الأطباء المتخصصين، ما يفرض على أغلب الأطباء العمل ساعات إضافية (دوام الحراسة) بخاصة أطباء النساء والتوليد، وبسبب الإرهاق البدني والنفسي الذي يصل إلى حد الاكتئاب، يتجه عدد كبير منهم إلى طلب الإعفاء النهائي وتقديم الاستقالة، والهجرة”.
ويصطدم الأطباء المغاربة عند تخرجهم بواقع المستشفيات العمومية وغياب وسائل الاشتغال واللوجيستيك، بما فيها الأشعة وغيرها من اللوازم، والتي حتى لو توافرت، تتعطل كثيراً ما يجبر الطبيب على تأجيل مواعيده لأشهر مع مريضه ويؤثر سلباً على مسار العلاج.
وفي السياق ذاته، أوردت دراسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان التي أشرف عليها خمسة باحثين من كلية الطب والصيدلة بجامعة الحسن الثاني، أن الطلبة المهتمين بالهجرة إلى الخارج غير راضين عن تكوينهم في المغرب (%95.2)، أو غير راضين عن الأجور (%97)، بالإضافة إلى الاحتقار والتنقيص من قيمة الطبيب على وسائل التواصل الاجتماعي (%83.6) بسبب ممارسات البعض من الأطباء. فالشائع اليوم في صفوف معظم المواطنين المغاربة هو أن الطبيب يستنزف دماء المواطنين لتعويض هشاشة القطاع.
وفي مقابل تصاعد معدلات هجرة الكفاءات الطبية، تم تسجيل تراجع على مستوى عدد الأطباء الأجانب الممارسين بالبلاد، حيث التحق 50 طبيبا أجنبيا فقط بالمستشفيات المغربية خلال سنة كاملة.
لذلك، فإن هجرة الأطباء تمثل تحديا كبيرا للقطاع الصحي في بلادنا، وتؤثر بشكل مباشر على عدة جوانب من النظام الصحي، من بينها نقص الكفاءات الطبية، مما قد يؤثر سلباً على جودة الخدمات الطبية المقدمة للمرضى، وأيضا تدهور الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، مما يعرضهم لخطر عدم الحصول على الرعاية الطبية اللازمة في الوقت المناسب، ما سيجعل هناك ضغط متزايد على النظام الصحي المحلي، بحيث يمكن أن يزيد نقص الأطر الطبية من الضغط على المستشفيات العمومية، والتي في الغالب لا تكون مستعدة لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات الطبية. وهذا ما سيجعل المواطنين يختارون الذهاب إلى المصحات الخاصة، وبالتالي ارتفاع تكاليف العلاج والضغط على ميزانية المواطن، ما قد يخلق احتقانا مجتمعيا لا مفر منه.
هناك جانب آخر مهم في الموضوع، وهو أن هجرة الأدمغة الطبية لها تأثير كبير على البحث العلمي والابتكار، لأن هجرة الأطباء ستؤدي إلى فقدان الكفاءات البشرية في مجال البحث الطبي، مما قد يقلل من إمكانية تطوير علاجات جديدة وتحسين ممارسات الرعاية الصحية، ما سيؤثر على التخصصات الطبية الحيوية مثل الأطباء العامين والجراحين وأطباء الأسرة، مما يزيد من صعوبة الوصول إلى الرعاية الأساسية.
وأمام هذه المعضلة، عمدت الحكومة إلى البحث عن حلول لوقف النزيف، ومحاولة “منع” الأطباء الممارسين أو الأطباء المتخرجين حديثاً في كليات الطب من ترك البلاد. كما تعمل على تحفيز الأطباء للبقاء من خلال إقرار زيادات في الأجور، كما تناقش استقطاب الأطباء الأجانب لمزاولة المهنة، وزيادة أعداد خريجي كليات الطب إلى الضعف.
وقد أعلن وزير الصحة والحماية الاجتماعية خالد آيت الطالب في وقت سابق عن مجموعة تدابير لمواجهة هجرة الأطباء، منها “مراجعة وضعية وظروف عمل الأطباء وإصلاح وضعية ممارسة المهنة من خلال توسيع مجالات التدريب بالمستشفيات الجامعية الجديدة”.
ومن الحلول الحكومية أيضاً زيادة أجور الأطباء والعاملين الآخرين في القطاع الصحي، وأيضاً إعادة هيكلة المنظومة الصحية لإعادة الاعتبار لمهنة الطبيب حتى تكون أكثر جذباً، فضلاً عن زيادة عدد مقاعد الطلبة المسجلين في كليات الطب والصيدلة.
وإذا أردنا تحليل الظاهرة من الناحية السوسيولوجية، فإن النظرية الصراعية لصاحبها كارل ماركس هي من بين النظريات التي تفسر ظاهرة هجرة الأطباء، بحيث أن هناك صراعًا دائمًا بين الطبقات المختلفة في المجتمع، ويمكن رؤية هذا الصراع في مجال الرعاية الصحية حيث تسعى الطبقة المسيطرة إلى الحفاظ على سيطرتها ومكاسبها، بينما يسعى الأطباء إلى تحسين شروط عملهم والحصول على حقوقهم المهنية. وبالتالي نزع الحقوق من الأطباء يخلق صراعا اجتماعيا بين فئتين متعارضتين على مستوى الأهداف والمصالح، بينما وعي الأطباء بضرورة الحصول على امتيازات من النظام المسير للمنظومة الصحية يخلق جدلا للطبقة المسيطرة، وعليه فإن هذه الأخيرة تسعى إلى فرض بنودها على القطاع مما يخلق وضعية اجتماعية واقتصادية للطبيب تتميز بالهشاشة وسوء التنظيم…
بشكل عام، نجد أن هجرة الأطباء ظاهرة اجتماعية إلزامية وإجبارية على الأطباء، وذلك على اعتبار أن منظومة الصحة هي تنظيم لإنتاج أطر طبية مهاجرة، وذلك لأن بيئة العمل في البلاد غير محفزة. صحيح أن هناك أطباء يفضلون الاشتغال في القطاع الخاص بدل الهجرة، غير أن هذه الفئة تظل ضعيفة مقارنة مع باقي الأطباء.