حميان ولقمان وجرة الكنز التي لم تسلم

 


بقلم: عبد الهادي مزراري
عند مقدمة جبال الأطلس المتوسط، حيث ما تزال الأرض منبسطة، وتحديدا في قرية تسمى سبت جحجوح، لا أحد بين سكان المنطقة يعرف أصل هذه التسمية، بعضهم يقول إنها لأحد العفاريت التي كانت تظهر في أوقات الحصاد ومواسيم الجني وقطف الثمار، ثم تختفي بقية العام.
في ثمانينيات القرن الفائت، ذات يوم من أيام السوق، وتحت خيمة سي عباس التي كان يقدم فيها السغنج الساخن وأكواب القهوة والشاي، وسط الضجيج المألوف والمتألف من أمازيغية وعربية دارجة، والناس من كل حدب وصوب تدخل وتخرج، كان رجلان يختلفان عن كل البدو يجلسان فوق حصير الخيمة وبينهما مائدة من الخشب بثلاث قوائم قصيرة، وفوقها محفظة سوداء منتفخة بأشياء ما وضعت فوق المائدة بعناية لتثير الانتباه.
الرجلان أحدهما يرتدي جلبابا أبيضا والآخر جلبابا اسودا، ينتظران كعادتهما من يستدعيهما لوجبة الفطور في ذلك الصباح البارد من أيام فصل الشتاء. ففي عرف القرية الفقيه لا يطعم الناس ولكن الناس تطعه وتكرمه بسبب ما يحمله في صدره من قرآن كريم.
الرجلان هما سي حميان وسي لقمان، كان معروفان لدى أهل المنطقة بضلوعهما في فك السحر واستخراج الكنوز ورد المطلقة وتزويج العانس، وما عدا ذلك من أيام الله فهما إما في ولائم الأفراح أو حول الموائد التي تنصب في الجنائز. كانا مميزان لدى كل سكان المنطقة، ورجال الدرك الملكي كانوا يطلقون عليهما لقب “الليل والنهار”.
حميان صاحب الجلباب الأسود، كان طويل القامة بعض الشيء ولا يتكلم كثيرا، وكان في معظم أوقات فراغه تجده منشغلا بتنظيف دراجته النارية القديمة، التي تعود لستينيات القرن الماضي. فيما لقمان صاحب الجلباب الأبيض، كان قصير القامة وكان كثير الكلام، لا يتوقف عن إعطاء النصائح ونقل الاخبار الصحيحة والكاذبة ويتدخل في كل شيء.
طال انتظارهما لدعوة كريمة للفطور في ذلك الصباح، ولم يتلقيا سوى التحايا من الداخلين والخارجين.
نظر لقمان إلى حميان وقال له:
– نسأل الله اللطف والسلامة .. قلوب القوم صارت أشد قسوة من الحجارة.
رد عليه حميان والأمل ما زال يملأ قلبه:
– هكذا حال كل الساعات الأولى من السوق، ننتظر فلا بد من كربم.
لكن لقمان الذي لا يطيق البرد مع الجوع كان وكعادته متسرعا في اتخاذ القرار، حتى وإن تسبب له ذلك في خسارة ما، فهو لا يتردد في تكرار المثل القائل وبصوت عال وسط الناس حتى يسمعه الجميع “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، ويضيف “وربك كربم صدق الله العظيم”، حتى يحسبها السامع أنه من كلام الله.
يستغل لقمان جهل سكان القرية باللغة العربية، خاصة أنهم من الأمازبغ ومن الناس البسطاء، ويعتقد أن كل كلمة ينطقها بالعربية الفصحى لها مقابل على درجات سلم الترتيب الاجتماعي، وستجلب له مزيدا من التوقير والاحترام والمال.
لم يتوان عن التحدث بعربيته المثيرة عندما استدعاه رجال الدرك ذات مرة للتحقيق في اعتداء أصيب على إثره زوج بضربة فأس على الرأس تلقاها من زوجته.
قال له الدركي: ما علاقتك سي الفقيه بربيعة؟
فرد عليه لقمان “قصدتني والمقصود الله لأمنع الثور من مغادرة الحضيرة”.
كان لقمان معروفا بخفة دمه، وكان من حين لآخر يقول لرفيقه حميان في الخفاء “هؤلاء قوم أشد كفرا من قريش لا يأتونك إلا إذا شعروا بالحاجة إليك”.
في إحدى المرات نهاه قائد الدرك الملكي عن المبالغة في مخالطة النساء اللاتي يقصدنه لتقييد ثيرانهن، فرد عليه:
– سيدي انتم أصحاب الأمر والنهي، منذ دخولي هذه الارض لم يسألني أحد عن مقدار الزكاة ولا نواقض الصوم، ولا مبطلات الصلاة، كل ما يسأولنني عنه هو كيف يدمر بعضهم بعضا.
بينما النهار يتقدم والناس تدخل خيمة السفناج سي عباس وتخرج، والفقيهان الجليلان لم يتناولا بعد فطورهما، فجأة رفع لقمان يده ملوحا لشخص وقف للتو بباب الخيمة يحملق بعينيه بحثا عن أحدهم.
تقدم الشخص نحو مائدة الفقيهان وبينما يعبر الخيمة قال لقمان لحميان:
– أكرمنا الله بوجبة الفطور أخيرا.
هو الحاج بيجي هكذا يلقبونه، في الستينات من عمره، رجل يملك مساحات شاسعة من الأراضي، قصيرة القامة، منتفخ الجسم، رأسه بحجمه الكبير هو أبرز ما في جسده، مشيته تحاكي مشية العنكبوت، دائما تراه بميزاج عصبي يسب ويشتم، له ثلاث زيجات واولاد كثر والمشاكل لا تتوقف عن التناسل.
بصعوبة جلس على ركبته فوق الحصير، ووضع يده على المائدة، وبحركة استهجان دفع حقيبة الفقيه حميان حتى سقطت على الأرض وقال:
– ألم يظهر لكما الحاج دريس هذا الصباح؟
رد عليه حميان:
“لا لم نره بعد
قاطعه لقمان “أنا رأيته دخل مسرعا وقال للسي عباس حضر الفطور سأعود ثم خرج”.
في الحقيقة اختلق لقمان هذا المقطع ليضمن بقاء الحاج بيجي ويضمن معه الفطور، وكذلك كان، طلب الثلاثة حضور القهوى والشاي والسفنج مع البيض، حتى إذا انتهوا من الأكل وتأخر الوقت ولم يأت الحاج ادريس، اشتغلت من جديد عصبية الحاج بيجي وضرب بيده على المائدة، واتكأ عليها ليقوم من مقامه، لكن المائدة لم تستحمل وزن قوته فانقلبت وانقلب معها كل ما كان فوقها.
نهض كما تنهض العنكبوت غاضبا، وقال بصوت مرتفع كعادته حتى يسمعه الجميع:
– لم يعد بيننا من رجال، بعته غابة من الزيتون منذ ثلاثة اسابيع ولم يدفع بعد ما عليه من دين، سأخبر الدرك الملكي.
ترك الحاج بيجي الخيمة وانصرف ولم يدفع ثمن الفطور، تلك عادته عندما يغضب، فهو يتعمد اللامبالاة في القرية والسوق كأن كل شيء ملك له.
التفت الفقيه حميان لرفيقه لقمان، وقال له:
– أرأيت ؟ دائما أقول لك أنت مقص، ولكن الحاج بيجي هو الدص، ادفع الآن ثمن الفطور”.
يعلم حميان أن لقمان ليس في جيبه سوى بعض الدريهمات التي لا تكفيه لشيء، ويعرف أنه هو من يدفع ثمن أخطاء لقمان. لكنهما صديقان حميمان لا يفترقان، ولا ينسى حميان أن لقمان هو بن بلدته، وهو من دعاه من بلاد جبالة وأواه حتى صار له منزلا وعائلة في هذه القرية، فهما كالليل والنهار يتعاقبان على الحياه في السراء والضراء.
قال لقمان لحميان:
– ادفع ثمن الفطور وسأدفع ثمن العشاء.
أدى حميان دعيرة هذا الصباح وأمامهما نهار بأكمله ليتدبرا قوتهما وقوت عائلتيهما، ومع اقتراب عصر ذلك اليوم بدأ السوق يلفظ ما ابتلعه من بشر ومواشي وخضروات تغادره تباعا.
مباشرة بعد صلاة المغرب، مر لقمان على بيت حميان وهو يحمل معه كيسا مغلقا بقطعة من الحبل، طرق الباب وخرج حميان يسأل:
– ماذا هناك؟
قال له لقمان:
– اخرج دراجتك النارية وتعالى معي.
حميان لا يطيق تصرفات لقمان ولكنه أحيانا يفاجأ بالنتائج الرهيبة، فسأله:
– إلى أين؟
رد عليه لقمان “قلت لك إنني سأتكفل بالعشاء، لقد دعاني الحاج بيجي لأمر ما.
شغل حميان دراجته النارية وركب خلفه لقمان، والكيس لا يفارقه، وانطلاقا يسابقان الظلام حتى إذا وصلا ناحية بيت الجاج بيجي، أمر لقمان حميان بالتوقف.
ترجل لقمان وفتح الكيس وأخرج فأسا وأخذ يحفر، ثم أخرج جرة مغلقة بإحكام وطمرها في تلك الحفرة وغطاها بالتراب. ثم قال لحميان:
اكمل الطريق بنا إلى بيت الحاج ادريس وليس بيت الحاج بيجي.
لحظة وصولهما، استقبلهما الحاج إدريس، وادخلهما إلى بيته عندما سألهما عن سبب مرورها في ذلك الوقت قال له لقمان:
– التقينا الحاج بيجي في السوق هذا الصباح، وطلب منا زيارته في البيت لتناول العشاء معه، ولكن عندما جئناه قال لنا ابنه إنه غير موجود.
مجرد ذكر اسم الحاج بيجي يعني الكثير بالنسبة للحاج ادريس فهو مدين له.
– وماذا يريد منكما الحاج بيجي؟
رد حميان بصوت بين الخافت والمسموع:
– طلب منا أن نشهد لصالحه في دعوة يريد أن يرفعها ضد شخص باع إليه الزيتون ولم يدفع له بعد.
ثم سألهما الحاج ادريس، هل قال لكما من هو هذا الشخص؟
رد عليه حميان: “لا، لم يخبرنا باسمه، قال لنا عندما نكون على العشاء سيخبرنا بالتفاصيل”.
ثم عاد الحاج ادريس يسأل:
– هل تنويان فعلا الادلاء بشهادتكما؟ هل كنتما حاضرين؟
قال له لقمان:
– نعود بالله من الشيطان الرجيم، نحن لم نحضرا شيئا، وحتى لو حضرنا، نحن بالنسبة لكل أهل القرية ونواحيها مثل أصابع اليد الواحدة، لا نريد أن نجلب العار لأحد أو لأنفسنا.
نظر لقمان إلى حميان وقال له:
– أليس كذلك؟
فرد حميان “إذا كان من حاجة لنا فنحن نخيط بالخيط الأبيض بين الناس، ونصلح والصلح خير”.
اطمأن الحاج إدريس لكلامهما ولكن من أجل توثيقه لا بد من وجبة طعام، استلطفهما حتى لا يبرحان بيته قبل تناول العشاء معا.
مرت تلك الليلة كما مر شتاء ذلك العام، وجاء فصل الصيف وامتلأ الضرع وأثمر الزرع، وذات مساء طرق لقمان باب بيت رفيقه حميان وقال له اخرج دابتك (يقصد الدراجة النارية)، وانطلقا باتجاه بيت الحاج بيجي.
كان الوقت بين المغرب والعشاء، وفيما هما في بيت الرجل، بدأ لقمان يتحدث بكلام غير مفهوم، ذعر الحاج بيجي وسأل حميان:
– ما بصاحبك؟
رد عليه حميان: لا أعرف.
تغيب لقمان بعض الوقت، بل غيب نفسه دون جسده وصار يتحدث إلى أطراف غير مرئية ويقول:
– لن أدعكم .. اتحداكم .. انا بالمرصاد ..
وصار يتلو آيات من القرآن، حتى استعاد وعيه وبالتالي أعاد نفسه بنفسه.
وسط ذهول الحاج بيجي سأل حميان لقمان:
– ماذا هناك ؟
رد عليه لقمان وبصوت مكسور يتنفس بصعوبة كأنه عاد من سفر من تحت الأرض:
– في أرض الحاج بيجي بوجد كنز، ولا يربدون مني استكشافه ولا استخراجه، لقد هددوني بالقتل.
بمجرد ما سمع الحاج بيجي بخبر وجود كنز تغيرت ملامح وجهه وأخد يتلعتم ويسأل:
‐ أين يوجد هذا الكنز؟ وماذا سنفعل؟ وكيف نستخرجه؟
قام لقمان من مجلسه وقال لحميان:
– لنغادر لا يمكن لي البقاء هنا الآن.
توسلهما الحاج بيجي للعشاء معه، لكن حميان أفهم صاحب البيت بأن الجن أحسوا بخطورة الفقيه لقمان ويمكن ان تتطور الأمور إلى أسوء ما لم يكونا مستعدين لمعركة مع الجن.
وببنما بهمان بمغادرة ببت الحاج بيجي طلبا منه أن يبقي الأمر سرا ولا يحدث به حتى نفسه وقالا له:
– سنعرض الأمر على أولياء الجن الكبار لنقرر ماذا نفعل، وسوف نخبرك عندما نتوصل بالجواب.
مرت أيام في الأسبوع على الحادث والتقى الفقيهان حميان ولقمان بالحاج بيجي يوم السوق، وتحت خيمة سي عباس السفناج تناول الثلاثة الفطور. قال لقمان لبيجي:
– إن كبار الجن سمحوا لنا باستخراج الدفينة من أرضك وبحضورك، واشترطوا دبح كبش سمين، وتلاوة التعاويد، واستعمال أبخرة ملك الجان دهقوش.
أمرا الحاج بيجي بأن يتكلف بالذبيحة وطبقا للاوصاف التي حددها الجن، ثم طلبا منه ثلاثة آلاف درهم لشراء البخور. بدا الرقم كبيرا للحاج بيجي المعروف بالبخل، وقال لهما:
– اعطوني أسماء البخور، لدي عطار صديق سأكلفه بالأمر.
رد عليه حميان: “قلنا لك إن الأمر يجب ان يبقى في السر، وإن من أحد اطلع عليه سيبطل العزم، وهذه أمور من اختصاصنا، وليس من اختصاص العطارين”.
نفذ الحاج بيجي أوامر حميان ولقمان وضرب الثلاثة موعدا لساعة العملية بعد وجبة العشاء من لحم الكبش السمين، وبعد صلاة العشاء في ظلمة الليل.
توجه الثلاثة إلى المكان الذي طمر فيه لقمان الجرة من أيام الشتاء، وأمر لقمان الحاج بيجي بالحفر، دون التلفظ بأي كلمة مهما يكون الكلام الذي يسمعه أو الشيء الذي يرآه. بينما تكلف حميان بإنارة الموقع تحت ضوء المصباح اليدوي، وتولى لقمان أمر الأبخرة وتلاوة التعاويد.
بينما كان الحاج بيجي يشق الأرض بالفأس كان لقمان خلفه يتابعه، وعندما اقترب من الجرة رماه لقمان بالحجر مرة ومرتين وثلاثة، فصاح بيجي:
– توقف لا تقذفني بالحجارة يا لمقان.
ساعتها ثار لقمان غضبانا أسفا وقال له:
– أما قلت لك لا تلفظ ولا كلمة؟ أتظن اننا وحدنا نحن الثلاثة فقط؟ ماذا هذا الجهل؟ أفسدت علينا كل ما فعلناه!.
وصار لقمان يسب ويشتم وحميان يستعطفه حتى انتاب الحاج بيجي الأسف وأخذ يعتذر من الفقيه لقمان.
أكمل الثلاثة العملية حتى وصلوا إلى الجرة أخرجها الحاج بيجي بيده فرحا حتى إذا فتحها وجد فيها قطعا من الفحم وبعض المفاتيح الصدئة، قال له لقمان:
كانت مملوءة بالذهب والفضة، وعندما رماك الجن الحارس بالحجارة وتكلمت أبطلت العزيمة وتحول ما في الجرة إلى ما تنظر إليه أمامك.
ركبا حميان دراجته وخلفه لقمان وغادرا موقع الاستكشاف، تاركين الحاج بيجي يروي هذه الحكاية بصوت عال كعادته ليسمعه الجميع.

اترك تعليقاً