

هوسبريس ـ مصطفى السباعي
الخاتمة رقم 2
شارع الحسن الثاني بالرباط.. شارع يعج بالعابرين والمتسكعين على أرصفة المقاهي.. باعة جوالين.. متسولون ومتسولات.. عسس وحراس عند كل خطوة.. أعبر منشغلا ككل العابرين، غارقا في ذاتي، لا ألوي على شيء.
فجأة، ورغم انغلاق أذني عما يروج ويموج من أصوات حولي، ينتزعني صوت قهقهة امرأة شابة تلاعب طفلا ذي خمس سنوات أو ما يقارب زيادة ونقصانا، وكان هذا تقديري لعمره. انتبهت، فرأيت الطفل يتبختر وهو يردد على مسامع مرافقته، أمه، أخته، قريبته، جارته، مُستعيرته، لا أدري ولا أجزم، “انتِ شمكارة… انتِ بنت الحرام… والشابة تقهقه، وكأني بها تُشجعه على تَنطُّعه، وقد رفعته بقهقهاتها إلى درجة الرشد والرجولة والفحولة.. رجلا ليس ككل الرجال… واصل الطفل شتائمه وسبابه ونعوته القدحية، إلى أن قال: انتِ قـ…ـة” فانفجرت الشابة بقهقهة عالية أثارت المتسكعين على رصيف المقهى المنشغلين بالخبش على شاشات هواتفهم الذكية… تبادلوا النظرات، وكان لكل نظرة معناها الذي لا تخطؤه العين…
مر هذا المشهد أمامي وعلى مسامعي في دقائق معدودات، سرعان ما انزويت بعدها في نفسي أحلل وأناقش ما رأيت وسمعت…
تبادر إلى ذهني شتات من أفكار وتحليلات إيريك فروم عن طباع وأمزجة الإنسان، والعوامل الحاسمة والمؤثرة في تكوين شخصيته. تذكرت سعيه الحثيث للتمييز بين المزاج والطبع، وخلاصته المتمثلة في أن نظرية الطبع لديه ينظر إليها في الأنواع الخاصة من اتصال الشخص بالعالم، وليس من خلال الأنماط المختلفة للنظام الليبيدي كما ذهب فرويد.
تساءلت في نفسي كيف يرى هذا الطفل العالم؟ الناس الآخرين؟ العابرين؟ المتسكعين على أرصفة المقاهي؟ أصحاب السيارات؟ الباعة المتجولين؟ المستهلكين للمنتجات المختلفة المعروضة، وفي مقدمتها ما يرتبط بحاجاته، من طعام ولباس ولُعَب؟ كيف ينظر على وجه الخصوص لأقرانه من الأطفال، خاصة الغادون والرائحون من وإلى المدارس، المرافقين لأوليائهم المتجولين في الأسواق؟.
وددت في لحظة لو أدخل عقل هذا الطفل وأنظر بمنظاره للعالم من حولي، تماما كما كنت أتمنى في طفولتي أن أتمكن من رؤية العالم وأراني أنا من خلال عين وإدراك حيوان ما؟ حمامة، قطا؟ حمارا، بقرة، عنزة…
حاولت لكنني لم أفلح، ولن أفلح ما لم أعش اللحظة بكل الظروف والعوامل المنتجة لها، اضطررت للاستعانة بأفكار إيريك فروم، الذي يرى أنه في سيرورة العيش هاته يصل الإنسان نفسه بالعالم باكتساب الأشياء واستيعابها، ثم بوصل نفسه بالناس وبذاته. ويرى أن كلا الشكلين من الاتصال مفتوح، وليس غريزيا كما لدى الحيوان. مفتوح لأن في وسع الإنسان أن يكتسب الأشياء بتقبلها أو أخذها من مصدر خارجي، أو بإنتاجها بنفسه ومن خلال مجهوده. عندما وصلت هذه النقطة تساءلت، ترى أين سيتموقع هذا الطفل لما ينمو ويكبر؟ هل سيتقبل أم سينتزعها من الآخرين أم سينتج حاجاته بنفسه؟. هل سيحب؟ أم يكره؟ وكيف؟ كيف سيكون موصولا بالآخرين، واحدا معهم، جزءً من جماعة إنسانية؟…
حسب إيريك فروم ستكون هذه التوجهات من صميم طبعه، وأفترض بناءً على ما رأيت وسمعت أنه سيكون بنسبة كبيرة في الجانب السلبي من كل هذا. ترى ما ذنبه في ذلك؟ ما ذنبه في أن يكون سلبيا، وقد ينحو إلى أطراف السلبية: الإجرام والتطرف. فهاهي مرافقته تشكل نوعية استجاباته، ومظاهر سلوكه وتحفزها في نفسه بقهقهاتها والمجتمع بمؤسساته غافل عنهما وعن عشرات الآلاف من أمثالهما، إلى أن تقع الفأس في الرأس كما يقال، ويتهافت المسؤولون والمحللون على تبرير ما حصل، وسيتدخل القانون حينها في صيغته الزجرية، هو الغائب الآن في صيغته التربوية.
وحتى ذلك الحين…