كم كان ولعنا بالحلوى شديدا ونحن أطفال. كان الواحد منا يطير فرحا حين يمنحه والده ريالا واحد (خمسة سنتيم.. أين منه الدرهم؟) يكفيه لشراء حلوى، و”طايَبْ وهاري”، و”غْلاَلَة”.. بريال واحد فقط..ونعود إلى بيوتنا ونحن “شبعانين” مزهوين. وفي بعض المناسبات، كالأعراس مثلا، كانت امهاتنا يأتين لنا ب”حقنا” من الحلوى وعلى رأسها “غْرِيْبَة”. وبالتحاقنا بالمدرسة، وانتقالنا من فصل إلى فصل، ومن مستوى إلى مستوى، بدأنا نسمع بنوع آخر من الحلوى. كان يُطْلق عليها اسم “لَحْلاَوَة”. كم كنا سُذَّج ونحن نقصد أقرب حانوت في الحي للبحث عن هذه”لَحْلاَوَة”. لم نكن نصدّق صاحب الحانوت وهو ينهرنا ويقول لنا “سيرُو تلعبُو..أنا ما عنديش لَحْلاَوة”. ومع ذلك، كنا نعود إليه لنفس الحاجة، وفي كل مرة ينهرنا ويُبْعِدنا.. لم ندرك مفهوم هذه “لَحْلاَوَة” إلا عندما التحقنا بالسلك الأول ثانوي. وفهمنا أن “لحلاوة” اسم مُبَطَّن للرشوة.كان يقال لمواطن يريد الحصول على وثيقة من الوثائق الإدارية:”لا يمكن لك أن تأخذ هذه الوثيقة إلا إذا أعطيت “لحلاوة” للموظف..”
من حلوى”جَبَان كُلْ وبان” إلى حلوى “الْعَب وكُلْ ” إلى”قريشلات” و”غْريْبَة” …إلى “َلَحْلاَوة” .. أيّة علاقة وأيّ مكر لغوي هذا الذي لم يكن بوُسْعِنا أن ندرك معانيه ومراميه في مجتمع كان يعيش على الكفاف والعفاف والغِنَى عن الناس؛ مجتمع طافِحٌ بعلاقات التراحم والتَّوادُد والتعاطف والتضامن والتآلف والتآزر في أعلى عِلِّيِين من السُّمُوِ والنبل والجُود والإيثار …وهي خصال وقِيَم بدأت تختفي ،أو قُلْ تُعْدَم إعداما، بالتدريج ، منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين إلى يومنا البئيس هذا. و”عِشْ نهار تسمع خْبَار”.
اليوم، لحسن الحظ أم لِسُوءِه، لم نعد نكتفي بسماع الأخبار، بل مشاهدتها مباشرة ، بالعين المجردة ، وبالصوت والصورة ، سواء تعلّق الأمر ، فعلاً ، بحلوى الحانوت التي كنا نزدَرِدُها ونحن صغار ؛ أم “حْلاَوَة” الرشوة التي أصبحت تُعْطى وتُقَدَّم بالطبل والغيطة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أم حلوى البرلمان التي لم يجرؤ واحد من البرلمانيين السابقين على مَلْءِ بطنه بها ، فبالأحرى أن يحمل كيسا منها خارج أسوار البرلمان ، وعلى مرأى ومسمع من المخزن وأصحاب المخزن، والصحفيين وما جاورهم، والعيُون المُتَلَصِّصَة.. والآذان المتنَصِّتة..والناس أجمعين..
أتذكر برلمانيين من طينة علال الفاسي،عبد الخالق الطريس،عبد الكريم غلاب ،عبد الرحيم بوعبيد ،الدّايْ ولد سيدي بابا ،علي يعتة ، بنسعيد آيت يدر، محمد اليازغي ، أحرضان ،أحمد عصمان، عبد الرحمان حجيرة …وغيرهم وغيرهم ممَّا لا يسمح المقام بذكرهم..كيف كانوا يلتفُّون حول موائد الأكل والشراب والحلويات ..وهم منشغلون ، ليس بما تحويه الموائد ،،بل في أحاديث ونقاشات وحوارات لا تنتهي حول بناء الوطن وبناء المواطن . كم كان هؤلاء البرلمانيون المغاربة وطنيين حقّاً ..ليس فقط في مواقفهم ومبادئهم وأخلاقهم وسلوكهم ونضالهم.. بل حتى في مأكْلِهِم ومشربهم وملبسهم..كانوا مُتَعَفِّفِين جدا ؛ نزهاء جدا ؛ متواضعين جدا ؛ مخلصين جدا …مَلْءُ الجيب والبطن آخر ما يفكرون فيه ..
“عش نهار، تسمع خبار”، ويأتي زمن البؤس السياسي والجفاف الثقافي والاحتباس الفكري والعُهْر الأخلاقي، يصبح التهافت على المقاعد : مقاعد المجالس الجماعية ، ثم المجالس الإقليمية ، ثم مقاعد مجلسي البرلمان ؛ ثم مقاعد المجالس الوطنية ..ثم مقاعد الأحزاب والنقابات وحتى الجمعيات…بمثابة ميادين حرب حقيقية لا تُبْقِي ولا تَذَر، تُستخدم فيها جميع الوسائل، من غش ومكر وكيد وتآمر بين الزملاء والأصدقاء والإخوان والرفاق وحتى الإخوة..تحت شعار “الغاية تبرر الوسيلة”..وتتحوّل كل هذه المساحات إلى ساحات حرب، وكَرٍّ وفَرّ.. يسقط فيها النزهاء والعقلاء والوُجهاء.. و”يتَبَنْدَرُ” فيها الوُضعاء وكل من سقط به السقف ليصبحوا، في يوم وليلة، من الزعماء ..زعماء الحلوى والْمِيكَا والبلاستيك ..الذين يغيّرون مبادئهم وقِيَمَهم ومواقفهم وولاءاتهم ..كما يغيّرون سياراتهم وعناوينهم وملابسهم و….زوجاتهم .. بكيس واحد، ليس من الأموال، ولا من الذهب والفضة، بل من …الحلوى.
يمكن أن يقلبوا الحياة وينقلبوا على الأحياء.. بدون أدنى حرج ولا ذرَّة خجل أو حياء.. ومن أين يأتي هذا الحياء فيمن لهم قلوب صدئَة ، وأفكار مهترئة ، ونفوس مهزوزة ،وجباه مُسَنْطَحة ومُسَطَّحَة، وعقول يابسة ، وبطون مُتَدَلِّية ، لا تشبع ولا تقنع وتقول هل من مزيد ..؟؟؟
أين هم الوطنيون من أولئك الرجال الذين صدَقُوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدَّلُوا تبديلا..؟ أما هؤلاء الذين أمامنا، نراهم بُكْرةً وأصيلاَ.. يتقدمون الصفوف ويحتلون الكراسي زُوراً وبهتانا وافتراء على الخالق والمخلوق..فهم على استعداد لبيع الجمل وما حمل، ويتخلّوا عنك في أول منعطف ومنعرج ولن يعقلوا عليك…أبدا ؟؟؟؟
أخشى أن أقول أننا سنفتش عن الوطنيين بالفتيل والقنديل في طُول البلاد وعرضها، ولن نجد لهم رائحة ولا أثراً.لست متشائما ولكن هذا واقعا.