بعيدا عن عالمنا .. آخر الشعوب المنعزلة

يونس أقجوج

في أقصى الأماكن على كوكب الأرض، تعيش قبائل من الشعوب الأصلية في عزلة تامة عن العالم الخارجي، دون كهرباء أو سلع أو كل ما يمت بصلة إلى الحياة العصرية. وعلى الرغم من مد العولمة الجارف، لا تزال حوالي المائة من تلك القبائل تحافظ على عزلتها ونمط عيشها الذي اتبعته منذ آلاف السنين، صامدة أمام التهديدات التي تفرضها الأوبئة والتغير المناخي وجشع الشركات.

في أحد أيام نونبر من سنة 2018، حاول مبشر أمريكي التوغل في إحدى الجزر الهندية النائية بهدف تعريف سكانها بالمسيحية وإقناعهم باعتناقها، فاستقبله أهلها الغاضبون بوابل من السهام ليلقى مصرعه على مشارف إحدى أكثر الجزر انعزالا على الكوكب، وتظل جثته هناك بعد فشل كل المحاولات التي قامت بها السلطات الهندية لاستعادتها.

لم يكن جون ألين تشاو، المبشر الشاب ذو الـ26 سنة إلا واحدا من العديد من الأشخاص الذين دفعوا حياتهم ثمنا لسعيهم نحو التواصل مع قاطني جزيرة سينتينيل الشمالية، إحدى جزر “أندمان” الهندية الواقعة في خليج البنغال، إذ قاوم سكان تلك القبيلة على مدى السنين كل محاولات الغرباء للتواصل معهم، فظلوا في عزلة تامة عن العالم في جزيرة لا تتعدى مساحتها مساحة جزيرة مانهاتن. + السينتينيال، آخر “معاقل الشيطان” على الأرض + في الليلة التي سبقت مقتله، كتب تشاو متسائلا، في مذكراته التي سلمها إلى صيادين محليين ساعدوه على الوصول إلى المكان، عما إذا كانت الجزيرة “آخر معاقل الشيطان التي لم يسمع أهلها بوجود الخالق”.

لم تكن الجزيرة معقلا للشيطان كما اعتقد المبشر، بل موطن أفراد قبيلة اختاروا النأي بأنفسهم عمن سواهم من البشر، مكتفين بحياة بدائية كالتي عاشها أسلافهم على الجزيرة على مدار ثلاثين ألف سنة، حيث ظلوا يعتمدون في عيشهم على الصيد في غابات الجزيرة وسواحلها، باستخدام الرماح والسهام التي تعد أيضا سلاحهم الرادع ضد كل من يتجرأ على الاقتراب. فبالإضافة إلى حادثة مقتل الشاب الأمريكي قبل سنتين، حصلت مواجهات بين قاطني جزيرة سينتينيل وبعثات استكشافية حاول أفرادها التواصل معهم، وانتهت جميع تلك المحاولات بالفشل بفعل المقاومة العنيفة التي أبداها سكان الجزيرة.

ومن أبرز الحوادث التي حصلت، الهجوم الذي تعرض له سنة 1974 طاقم تابع لناشيونال جيوغرافيك، حينما حاول أفراده الاقتراب من الجزيرة لتصوير فيلم وثائقي، حيث أصيب مخرج الفيلم بجراح بعد إصابته بسهم ما اضطر البعثة إلى التراجع والتخلي عن الفكرة.

وفي عام 2006، قتل السنتينليز صيادين بعدما جرفت الأمواج قاربهما وهما نائمين نحو شاطئ الجزيرة، وقد فشلت السلطات الهندية في انتشال جثتيهما بعد تعرض مروحية تابعة لها لوابل من السهام التي أطلقها أفراد القبيلة.

ولا تعرف بالتحديد الأسباب التي جعلت سكان جزيرة سينتينيل الشمالية يختارون الانعزال التام عن باقي البشر، لكن الانفتاح على الآخرين قد يؤدي بهم إلى الهلاك بسبب عدم توفر أجسامهم على المناعة ضد الفيروسات، حتى البسيطة منها، إذ يمكن لفيروس بسيط مثل الإنفلونزا أن يفتك بأفراد القبيلة. وقد حصل في الماضي ما يثبت ذلك عندما اختطف فريق بحثي بريطاني في ثمانينيات القرن التاسع عشر عددا من أفراد القبيلة لأغراض علمية. لكنهم ما لبثوا أن مرضوا وماتوا واحدا تلو الآخر، وتمت إعادة الناجين، ومعظمهم أطفال، إلى الجزيرة.

+ قبيلة ييفو، عش التمساح + في الأدغال البعيدة بمنطقة سيبيك الشرقية، إحدى محافظات بابوا غينيا الجديدة، تعيش قبيلة “ييفو”، وهي واحدة من قبائل قليلة متبقية لم تقم أي صلة بالعالم الخارجي، ولا تتوفر بشأنها أي معلومات إلا ما رواه الكاتب ومقدم البرامج البريطاني بينيدكت آلن في كتابه “في عش التمساح .. رحلة في بابوا غينيا الجديدة” الذي صدر سنة 1987 بعد رحلة قادته إلى معقل القبيلة النائية.

كان آلن في السادسة والعشرين من عمره عندما قرر خوض مغامرة جريئة بزيارة قبيلة من بين الأكثر عزلة في العالم، ووصف اللقاء بأنه كان عنيفا، حيث استقبله أفراد القبيلة بـ”استعراض مخيف للقوة” كان عبارة عن رقصة صاخبة بالنبال والسهام. تلته طقوس استقبال عنيفة استمرت لستة أسابيع تعرض خلالها للضرب والتغذية القسرية والطعن بواسطة شفرات الخيزران الحادة، ما نجم عنه فقدانه لكمية كبيرة من الدماء وخروجه بندوب كثيرة تشبه جلد التمساح لا يزال يحمل آثارها إلى اليوم. وعلى الرغم من قسوتها، لم تكن طقوس استقبال شعب “الييفو” للصحفي البريطاني عملا عدوانيا، بل إجراء ضروريا لجعله “قويا كالتمساح” ومساعدته على التأقلم مع الحياة القاسية في الغابة المطيرة.

وبعد مضي 30 سنة من اللقاء الأول، حاول بينيدكت آلن في 2017 القيام بمغامرة أخرى لإحياء الصلة بقبيلة “الييفو” البعيدة، وشق طريقه وسط الأدغال دون هاتف أقمار صناعية أو أي وسيلة اتصال أو تحديد مواقع. وبعد ثلاثة أسابيع من الاختفاء، تم العثور عليه وقد بدت عليه علامات المرض بسبب إصابته بالملاريا. وانتهت رحلته الثانية دون أن ينجح في العثور على قبيلة الييفو التي ابتلعتها أدغال بابوا غينيا الجديدة.

+ “الأوا”، أكثر القبائل المهددة بالفناء + في يناير من سنة 2014، أرسلت الحكومة البرازيلية قوة من الجيش إلى إحدى مناطق غابة الأمازون، معززة بالجرافات والمروحيات، لإخلاء المئات من الأسر التي كانت تعيش بشكل غير قانوني فوق إحدى المحميات المخصصة للشعوب الأصلية.

وكان الهدف من وراء الحملة التي استمرت لثلاثة أشهر إنقاذ شعب “الأوا”، الذين يوصفون بأنهم أكثر القبائل المهددة بالفناء في العالم. وكانت العملية الأكبر من نوعها في البرازيل.

لا يتجاوز عدد أفراد قبيلة الأوا 100 فرد، وهم في تتناقص بشكل مستمر بسبب تدمير الغابات التي يعتمدون عليها في معيشتهم ومأواهم من قبل شركات تجارة الخشب، والقتل الذي يتعرض له أفرادهم من حين لآخر من قبل أصحاب المصالح التجارية المسلحين.

وتعد الغابة عصب الحياة الرئيسي بالنسبة لشعب الأوا وباقي الشعوب الأصلية في الأمازون لأنهم يعتمدون في معيشتهم على صيد الحيوانات وقطف الثمار والتداوي بالأعشاب البرية. ويعيش “الأوا” على شكل مجموعات عائلية كبيرة، حيث يقومون برحلات صيد جماعية يشارك فيها الجميع، بمن فيهم الأطفال الذين يتعلمون في سن مبكرة تقنيات الصيد وصنع السهام والنبال.

اترك تعليقاً