تيمحضيت..الجغرافيا التي  تقدم عجائزها وأطفالها قرابين للموت.. كلما حل  الثلج والصقيع..( ربورتاج)

هوسبريس

تيمحضيت قرية في أدغال الأطلس…أو قل مجمعا سكنيا  ليس فيه ما يشجع على التمسك بالمكوث به ..غير رائحة التراب الذي صنعه الآباء والأجداد..الفضاء العام، يبدو للزائر الذي لم يحظ بشرف الزيارة من ذي قبل كما لو أنه قطعة من الزمن الخلفي ..زمن قرون خلت.. في مدينة تعيش يوميات شتائها قصة موت يومي.. حيث يصير للثلوج لون الأكفان…والأطفال زهورا تقطف أرواحهم من قلب أرحام أمهاتهم، وكأن النساء في هذه الجغرافيا كتب لهن أن يلدن لملأ المقابر،  وليس لبعث الحياة في ملائكة يجب أن تكبر وتتمرد على حياة الثلج وحب التراب ..فيما الرجال فهم شداد غلاظ..ولكن ما قيمة ذلك والعوز والفقر وقلة ذات اليد تأكلهم أكلا..لا شيء في هذا الفضاء الممتد على طول البصر يستحق التنويه…أينما وليت وجهك لا تشم غير روائح الصقيع وأحلام باردة لساكنة لا أمل لها سوى ان تظل وأطفالها ومواشيتها على قيد الحياة في هذا الشتاء البارد…

تيمحضيت..واحدة من قواعد قبيلة بني مكيلد الأمازيغية ..وهي إحدى اكبر قبائل الأطلس المتوسط الزايانية، تحدها شرقا قبيلة أيت يوسي، وشمالا قبيلة بني مطير وقبيلة كروان، وغربا قبيلة أيت سكوكو وقبيلة زايان وقبيلة ايشقيرن، وجنوبا قبيلة أيت يحيى  وقبائل ايت عياش وأيت زديك وايت أوفلا التابعة لاتحادية قبائل أيت يافلمان …وتمتاز قبيلة بني مكيلد بكونها ممرا تاريخيا عبر القرون، حيث تلتقي في أراضيها الشمالية الطريق القادمة من تافيلالت وما وراءها إلى الصحراء الشرقية من جهة، والطريق القادمة من الجنوب الغربي، أي من حوز مراكش وسوس وما وراءه إلى الصحراء ، إلى جانب المنتزهات والمنتجعات والمصطافات والغابات الجميلة..وتضم قبيلة بني مكيلد بلدات كثيرة، منها الى جانب تيمحضيت: آزر و عين اللوح  وايطو و سيدي عدي و أساكا نطادسا و دوار القائد أمغار و دار قائد أيت واحي و تاكورت ايزم …

الثلوج والصقيع والفقر …حين يتحالفون ضد ساكنة تيمحضيت

كلما حط الصقيع والثلج  رحالهما بتمحضيت، كما بمناطق أخرى بمناطق المغرب الجبلي، مثل كل سنة في مثل هذا الوقت..تعزل عن محيطها،  فتغدو صحراء باردة…معاناة ساكنتها تزداد.. ويغدو البؤس والجوع والامراض و العزلة هي العناوين الرئيسية لساكنة أملها الوحيد هو ان تظل على قيد الحياة إلى ان يغادر الثلج والصقيع…

نحن نعيش ما بين  6 و 7 أشهر  سنويا في سجن مفتوح معزولين عن العالم، تحاصرنا الثلوج من كل جهة… فنغدو مثلما لو كنا محتجزين.. فقراؤنا يعانون الجوع، لا يأكلون في مثل هذا الموسم من كل سنة سوى الخبز والشاي في فطورهم وغذائهم وعشائهم…يتعايشون مع الأوساخ والأمراض ..والجهات الرسمية لا تكاد تعرف شيئا عن واقع هؤلاء المساكين في هذه الجهة المسكينة من وطننا العزيز، هكذا لخص سالم ، رجل أربعيني من احد الدواوير التي تبعد عن تيمحضيت ببضعة كيلومترات بأدغال الجبال، يجثم الثلج على واقع الحال في هذه الجهة، كما في جهات أخرى بأدغال الأطلس، قرابة نصف سنة، يقول سلام يلازم السكان بيوتهم ..لا يغادرونها إلا لدفن موتاهم من الأطفال والشيوخ الذين يحصدهم البرد القارس المنبعث من الثلوج التي تكسو جبال الأطلس.

سلام فلاح امازيغي يتكلم الامازيغية والعربية ..بخلاف الشيوخ فإنهم لا يتواصلون بغير الامازيغية..أخذوا على حياة الجبال الوعرة..  ملتفون في جلابيب صوفية…للوصول إليهم، لابد من ركوب الدواب لأنه لا مسالك ولا طرقات إلا وغطاها الثلج في مثل هذا الموسم في أعماق هذا المغرب العميق..

في دواوير هذه المنطقة التابعة لتيمحضيت مثل دوار ببقريت ..يعتبر الحديث عن سنة دراسية كاملة ضرب من الخيال، فالتلاميذ في معظم الدواوير لا يرون قاعة الدرس إلا لماما حين يحل موسم الثلج والصقيع..فالطبيعة القاسية تطرد المعلم كما التلميذ…يدرسون شهرا ويغيبون شهرين في السلك الابتدائي…ما يعني حسب احد الآباء وجوب ضرورة التفكير  في سنة دراسية جهوية لهذه المنطقة وغيرها من المناطق المشابهة…أما الذين ينجحون من التلاميذ  في الانتقال إلى المرحلة الإعدادية ثم الثانوية فعليهم أن يكابدوا الانتقال إلى إحدى المدن القريبة ليقيموا في الداخلية بعيدا عن ذويهم، مع احتمال تعرضهم لأذى العواصف الثلجية أثناء عودتهم لقضاء العطلة الأسبوعية بدواويرهم..

هي تفاصيل حكايات ومغامرات مع الثلوج والصقيع، وما يترتب عنهما من آلام ومآسي..بهذه المنطقة القابعة فوق أعالي الجبال …تنعش ذاكرة ساكنتها كلما أيقظها سؤال الحياة والمستقبل الذي لا يجيء إلا مرارة ..

 

تيمحضيت..في فصل الصقيع..تصبح قلعة للربو والروماتيزم.. وعلل أخرى غير معروفة..

بتيمحضيت…إحدى مراكز هذه الجغرافيا القاسية..و بأحد المقاهي البسيطة  جلس إبراهيم الذي قدرله ان يدرس ويحصل على إجازة، ثم يعود إلى قريته ويتزوج بعدما شح الوطن من فرصة عمل بإحدى مناطقه البعيدة عن بياض الثلج وعذاب الفقر..وهناك يستقر..ويخوض تجربة الحياة مثلما أخذها آباؤه بذات المكان وبذات الطعم…جلس وحوله ثلة ممن تستهويهم تفاصيل حكايات المرارة والأسى بمناطق الجبال والخلاء..يلتفون جميعهم حول فرن …يروي تفاصيل التهميش والقهر والفقر والامراض البدائية التي انقرضت في كل بلاد العالم إلا بهذه المنطقة..مثلما يحكي بمرارة واقع حال الشيوخ والأطفال والحوامل في غياب أدنى شروط الحياة…منطقة توجد خارج التفكير الرسمي..تعيش  على وقع الفقر والأمية والبنيات التحتية المهترئة…كل الدواوير التي تؤثث جغرافيا تيمحضيت تتحول إلى سجن كبير مفتوح على السماء ، لا يدخله ولا يخرج منه أحد ، لشهور كاملة.. من دجنبر حتى أبريل، حيث يغلق السكان على أنفسهم في بيوتهم الطوبية، ويلتف الميسورون منهم  حول النار.. تدفئهم في الليل كما النهار، اتقاء لشر البرد المميت، المنبعث من تحت الثلوج التي تغطي كل شيء، بما فيها بيوتهم..أما فقراؤهم ممن لا يقوون على اقتناء حطب التدفئة..فإن مرضاهم وأطفالهم وعجائزهم ينتظرون الموت بصبر غير منظور..في هذا الفضاء تنتشر أمراض الربو والروماتيزم والتيفويد، وأخرى غير معروفة..مصدرها الصقيع والثلج والفقر والأوساخ..كثيرون لا يغتسلون لشدة البرد ولا يعرفون طعما غير طعم الخبز والشاي إلى ان تذوب الثلوج وتظهر الطريق التي شقُّوها بأرجلهم وحوافر بغالهم، إن خرجوا قريبا أو بعيدا فإن لا أحد يأمن على نفسه الرجوع، تماما كما وقع لكثيرين منهم..حيث خرجوا ولم يعودوا..ماتوا بردا وجوعا بأعالي الجبل…

يقول أحدهم..قبل سنوات وقعت حادثة مروعة…هلك أربعة رجال في أعالي الجبل بضواحي تيمحضيت المعروفة بوعورة مسالكها وقممها.. كانوا يرعون الغنم والماعز ، وفوجئوا في يوم عاصف بالثلج يحاصرهم من كل جهة، حيث قطعوا مسافة صغيرة في ثلاثة أيام ليصلوا إلى منازلهم، بسبب الثلج الذي أغرقهم..حينما وصلوا إلى بيوتهم التفوا حول نار التدفئة التي أن أحترقت أرجلهم، وأكلت اللحم التي تفتت منهم، قبل أن يشعروا بالدفء يسري في أجسادهم قبل ان تغادر الأرواح أجسادهم..

 

 

جغرافيا تكتمل فيها فصول دراما صراع الإنسان من أجل البقاء

ما يتحسر عليه السكان هنا، هو ما عبر عنه..كثيرون منهم ..وهو أن الجهات الرسمية تستغل المنطقة والغابة ولا تقدم للساكنة الخدمات التي تتطلع إليها ، قالها أحدهم ، بصوت المعاناة التي لا تنتهي، لأن الأمر يعني الغابة التي تعتبر مصدرهم الوحيد لرعي مواشيهم أو الحطب لأجل التدفئة..

فاضمة شابة في مقتبل العمر تبدو على ملامح وجهها قساوة العيش والطبيعة، لا تتكلم العربية…سألناها عن الحال والاحوال في هذا الفضاء القاسي..قالت بامازيغية ممزوجة بالأسى والإحساس بسوء الطالع الذي جعلها من أهالي هذه الجهة من المغرب الآخر،  ان الحياة في تيمحضيت،هي نفسها   الحياة في الجبل، حيث ما ان يحل الصقيع والثلج حتى تكاد الحياة تتوقف …نجد صعوبة في الحصول عن المؤن والغذاء..لنا ولمواشينا، لأننا نعزل عن العالم، ونصبح واحة من البياض وفوقها أرواحنا التي يتهددها الموت في كل لحظة وحين..الفقراء على وجه الخصوص…حيث هناك من الساكنة ممن يملكون جرارات يستطيعون التنقل لجلب الغذاء و حطب التدفئة، بخلاف الفقراء، فإن فقرهم  وقلة ذات اليد تفرضان عليهم ومعهم ماشيتهم البقاء فوق هذا الجبل إلى أن يرحل الثلج وتدب الحياة من جديد في هذه الرقعة من المغرب.. أما لحسن، وهو  رجل أربعيني، حولته قساوة الطبيعة إلى رجل ستيني، حيث  غزا الشيب لحيته وراحت التجاعيد وقلة شح ذات اليد  ترسمان على وجهه علامات الشيخوخة..قال:  في موسم الثلج..تكاد الحياة تتوقف في تيمحضيت..درجة الحرارة تصبح تحت الصفر بدرجات في بعض الأحيان…فيتعذر على الناس الوصول إلى مصادر الحصول على الغذاء لإطعام أطفالهم ومواشيهم التي تعد مصدر الدخل الوحيد .

فضاء جغرافي تكتمل فيه فصول دراما صراع الإنسان من أجل البقاء، سلاحه الوحيد الصبر والمكابرة…وتحدي  أنواع القساوة لأجل البقاء على قيد الحياة….

يقول سعيد.. من أبناء احد الدواوير التابعة لتيمحضيت.. ما شاء الله وصافي..راحنا في العذاب ..وأولادنا في العذاب ..وماشيتنا في العذاب…كل أسباب الحياة تغلق أبوابها في موسم الثلج..سبعة أشهر أو ثمانية…..حتى المعلمين الذين يعلمون أولادنا يصبح من الصعب وصولهم إلى أماكن عملهم…المستوصفات الموزعة على الدواوير وبعض نقط هذا الفضاء ….تتحول إلى مجرد جدران يسكنها البوم والفراغ…إن حياتنا تصبح في مثل هذا الوقت من كل سنة خارج الزمن..

 

حكايات من منطقة .. أثخنتها الجراح …

تيمحضيت..والضواحي…فضاء تغيب  فيه مقومات الحياة  في هذا الفصل المطير…فصل الثلج والصقيع..تصبح ساكنتها  خارج حسابات الزمان والمكان ، تموت أمام أعينهم كل الأحلام والصور الجميلة التي يحلمون بها لغد أفضل… لقد أخطأتهم كل المشاريع والسياسات، يقول علي… واحد من الشباب المتعلم في هذه المدينة، قال  ان قساوة المناخ معطى ثابت في هذه المنطقة، فالناس.. أخذت على التعايش مع قساوة الطبيعة، على الأقل سبعة أشهر في العام…نعم، ما يزيد عن نصف سنة تهجر فيها البسمة أوجه ساكنة هذه الجهة من الوطن العزيز…فئة كبيرة منهم تنقطع بها السبل تماما لعدم توفرها على وسيلة نقل تستطيع ان تعبر بها أكوام الثلج وقساوة الصقيع بحثا عن مكان به ما يجلب من مأكل للأطفال والمواشي التي تعد مصدر الرزق الوحيد في هذه المنطقة …متابعا، في هذه الجهة في مثل هذا الموسم من كل سنة تصبح الحياة شبه معطلة…تتعطل فيها أسباب الإقبال على الحياة، مثلما تتعطل وسائل النقل..من سيارات وشاحنات لوعورة المسالك وتعقدها بسبب الثلوج..

احماد…رجل ثلاثيني متعلم …التقنياه بأحد الأزقة المفروشة بالبياض والجليد، سألناه عن حال الناس وأحوالها في موسم البرد هذا…نظر إلينا طويلا حتى اعتقدنا ان الرجل غضب من سؤالنا…فقال وفي نبرات صوته ما يغني عن أي جواب يقدمه…ان الناس هنا تصبح في هذا الموسم في عزلة تامة عن العالم…الميسورون منهم يأخذون في حسبانهم هذه العزلة فيوفرون في الصيف ما يعيشون به ..يخزنون المأكل وحطب التدفئة…فيما المساكين والفقراء ممن لا تسعفهم القدرة على التخزين.. فإنهم يعانون رفقة مواشيهم..يعانون الجوع والبرد، ولا سلاح لهم غير الصبر والدعاء بذوبان الثلج ..

رابحة ..سيدة في عقدها الخامس، لا تتكلم العربية، ترجمت لنا كلامها إحدى النساء..قالت إنها تسكن في أعالي الجبل..و تعيش رفقة مواشيها حالة يرثى لها…وانه في غياب الإمكانات فهي مضطرة للبقاء حيث هي، فيما الناس الميسورون فإنهم ينتقلون رفقة قطعانهم إلى المناطق الدافئة، ولا يعودون إلى تيمحضيت إلا بعد مغادرة الثلج والصقيع…

فيما مصطفى، وهو وافد على هذه المنطقة…كان قدره ان يأتي إلى المنطقة زائرا من آسفي فيتزوج بها ويصبح من اهالي تيمحضيت…يقول ان الناس لا تعيش هنا سوى ربع حياتها، في اشارة إلى سبعة أو ثمانية أشهر من الثلج الذي يمنعهم من الحركة …مطالبا بتدخل الدولة لإيجاد الحلول، عبر حفر على الأقل المسالك والطرق الكافية و توفير حطب التدفئة الذي يصبح في مثل هذا الوقت أغلى من الخبز والحليب.

أما لحسن..من مواليد المنطقة، فيقول ان المنطقة تعاني إلى جانب العزلة والثلج والصقيع في مثل هذا الوقت من كل سنة، الفقر والتهميش وندرة فرص الشغل..الناس في تيمحضيت..يقول،  حياتهم تصبح في خطر كلما حل هذا الموسم…كثير من الأطفال والحوامل والشيوخ يموتون بسبب البرد و انعدام الإمكانات الطبية.

إنها منطقة من مناطق مغرب الثلوج والتهميش ..حيث يصبح  الصقيع  والثلج كلما حل فصل الشتاء الى آلة للموت والهلاك ..لا ترحم…تنتج باستمرار ..و في هذا الوقت بالذات..صورا شتى للمآسي ولو بصيغ مختلفة، تخطف  الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل …تخطفهم جميعا الى المقابر في وطن يفترض ان تعي سياسات مسؤوليه انه لم يعد مقبولا أن يظل الفقر والتهميش متجذرا بهذه المنطقة..حتى تكون لقمة سائغة لموسم الصقيع والثلج.

ــــــــــــــــــ

ملاحظة: الاسماء مستعارة

اترك تعليقاً